الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد الصادق الوعد الأمين وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين، أما بعد:
فقد سبق بيان أهمية الملكة اللغوية والفرق بينها وبين دراسة القواعد في مقالتي السابقة وفي هذه المقالة أريد أن أذكر بعض الوسائل لتحصيل هذه الملكة وتنميتها. ولا بد أولا أن أبيّن معنى الملكة وحدّها ووجه كون اللغة ملكة. وكان من اللازم عليّ أن أذكر هذه الأشياء في مقالتي السابقة ولكنها كُتبت على عجالة فلا تخلو من النقصان وهذه المقالة كتتمّة لها.
حد الملكة وحقيقتها ووجه كون اللغة منها:
لا يذكر في المعاجم القديمة المعتبرة لفظ الملكة بمعناه الذي نقصده هنا بل يذكر نحو “فلان حسن الملكة” بمعنى أنه يُحسن إلى مماليكه. ولكنّ ابن فارس قد ذكر في “مقاييس اللغة” أن أصل اللفظ بمادّة الميم واللام والكاف يدل على “قوة في الشيء وصحة”[1] وهذا المعنى يرتبط ارتباطا قويّا بما نقصده من المعنى الاصطلاحي، وأما من المتأخرين من ذكره وفصّل القول فيه كالسيد الشريف الجرجاني وقد قال في كتابه “التعريفات”:
“الملكة: هي صفة راسخة في النفس، وتحقيقه أنه تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، ويقال لتلك الهيئة: كيفية نفسانية، وتسمى: حالة، ما دامت سريعة الزوال، فإذا تكرّرت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزوال فتصير ملكة، وبالقياس إلى ذلك الفعل: عادة وخُلقا”.[2]
ومن المعاجم الحديثة قد ذُكر في المعجم الوسيط ما يلي:
“(الملكة) صفة راسخة في النفس أو استعداد عقلي خاص لتناول أعمال معيّنة بحِذق ومهارة مثل الملكة العددية والملكة اللغوية”.[3]
وأما بالنسبة لوجه كون اللغة ملكة فقد ذكرت في مقالتي السابقة أن المقصد الأساسي من اللغة في المهارات الأربع من التكلّم والكتابة والاستماع والقراءة وهي كلها ملكات فلذلك قال العلامة ابن خلدون في “المقدمة”:
اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع وهذا هو معنى البلاغة”.[4]
الملكات تحصل بالتكرار وكثرة المران والممارسة:
والسر في ذلك أن الفعل في أوّل وقعته على النفس يؤثر فيها فتحصل كيفية نفسانية ولكنها سريعة الزوال ثم لا يزال يتكرّر حتى ترسخ هذه الكيفية فتصير ملكةً، وقد سبق هذا المعنى في تعريفها. وهذا معلوم ومشاهد في الواقع لأنك إذا خضرت درسا في اللغة العربية واستمعت إلى الكلام العربي وقرأت الكتاب وحاولت الفهم ومارست التكلّم والكتابة تشعر في نفسك استعدادا يمكّنك من الفهم والتبيين لكنّها سرعان ما يزول إلا إذا تتباعت الدروس فيكثر المران والاستعمال حتى يصير هذا الاستعداد صفة راسخة في نفسك. فلذلك قال العلّامة ابن خلدون بعد أن بيّن كون اللغة ملكة:
“والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال، لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرّر فتكون حالا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي: صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكت اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفيّة تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقَنها أولا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقَنها كذلك. ثم لا يزال سماعه لذلك يتجدّد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرّر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة، ويكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال. وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع، أي: بالملكة الأولى التي أخذت عنهم ولم يأخُذوها عن غيرهم”.[5]
وبهذا نعلم أنّ الملكة اللغوية لا تحصل بمجرّد دراسة القواعد بل لا بد من كثرة المران والممارسة بحلّ التمارين وتطبيق القواعد ومحاولة الكتابة والتكلّم وكثرة الاستماع والحفظ للكلام الفصيح، بل لا بد أن يسعى الإنسان إلى إيجاد البيئة العربية لنفسه بالإعراض عن اللغات الأخرى والاقتصار على العربية في قراءة الكتب والمقالات والأخبار ومشاهدة الأفلام والبرامج ومحاولة التفكير بها مدة من الزمن حتى ترسخ عنده هذه الملكة.
أهميّة الاعتناء بالمصادر الأصلية للغة العربية الفصيحة:
ومعلوم أن لسان العرب الفصيح قد فسد بمخالطتِهم العجم بعد توسّع مُلكهم وبُعدِ الزمان، فلذلك لا بد أن يعتني الطالب بمصادر اللغة الأصلية التي لم تفسد، كما قال ابن خلدون في “المقدمة”:
“ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث وكلام السلف ومخاطبات فحول العرب في أسجاعِهم وأشعارهم وكلمات المولَّدين (يعني الأدباء المُحْدَثين الذين لم تفسد لغتهم) أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولُقّن العبارة عن المقاصد منهم. ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم وتأليف كلماتهم وما وعاه وحفظه من أساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخا وقوة. ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال”.[6]
أهمية حفظ القرآن الكريم مع فهم معانيه ومراجعة التفاسير:
ومن أهمّ ما يعين الطالب في تحصيل الملكة اللغوية حفظ القرآن الكريم بالفهم وقراءة كتب التفسير. والسبب في ذلك أنه بحفظ القرآن الكريم يتأثر بأسلوبه في الاستعمال ويندرج في ذاكرته المنوال الذي يقيس عليه في إنشاء الكلام من الملفوظ والمكتوب والحفظ من أهمّ وسائل تحصيل الملكة كما سيأتي بيانه. وأمّا كتب التفسير فهي تحتوي على مادّة ضخمة في علوم اللغة من معرفة الغريب والصرف والنحو والبلاغة مع ما فيها من الأحاديث الكثيرة وكلام السلف والأشعار، وهذا الأمر معلوم لكلّ من اشتغل بدراستها. ومما أعجبني جدّا في مطالعة سِيَر العلماء أن العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلّمي[7] درس علوم اللغة بقراءة تفسيري النسفي والخازن وتفوّق فيها. وأنا شخصيّا استفدت من كتب التفسير كثيرا وكان أول كتاب قرأته في هذا العلم “صفوة التفاسير” للشيخ محمد علي الصابوني فتعلّمت بقراءته كثيرا من الكلمات الغريبة وبعض وجوه البلاغة وتعرّفت على المصادر المهمّة في التفسير ثم تابعت القراءة بالكتب الأخرى كتفاسير الجلالين والنسفي والإيجي و”التسهيل لعلوم التنزيل”[8] لابن جزي الغرناطي مع مراجعة أمهات الكتب في هذا العلم كتفسير ابن كثير والقرطبي و”روح المعاني” للآلوسي وتفسير الإمام فخر الدين الرازي أحيانا حتى حصلت على ملكة لغوية لا بأس بها مع أني لم أتوسّع في دراسة النحو واقتصرت فيه على كتاب “الدروس النحوية” مع الرجوع إلى “جامع الدروس العربية” لمصطفى الغلاييني و”النحو الوافي” لعباس حسن وقتَ الحاجة. وفي هذا المعنى قال الشيخ البشير عصام المراكشي[9] في كتابه بعنوان “تكوين الملكة اللغوية”:
“ومن بركة القرآن والحديث، أنني رأيت من يُقبل على تعلّم كتاب الله حفظا وتجويدا ودراسة، وعلى تعلّم ما تيسر من الحديث النبوي حفظا وقراءة، مع ما يتعلق بذلك من قراءة الآثار السلفية وكتب السيرة والتاريخ، فيفصح لسانه، وتجزل لغته، ويسلم من اللحن والعجمة، مع أن زاده من علوم اللغة قليل جدا، بل هو كالمعدوم. وهذا شيء مشاهد مجرّب”.[10]
وقال أيضا: “ولحفظ القرآن وقراءته أهمية كبيرة في ضبط كثير من قواعد النحو والصرف واللغة.
فقارئ القرآن لا يقول مثلا: «نسَيت ورضَيت» بل يقول : “نسِيت ورضِيت” لأنه يقرأ قوله تعالى: “ربّنا لا تؤاخذنا إن نسِينا أو أخطأنا” [البقرة: ٢٨٦]، وقوله تعالى: “ورضِيتُ لكم الإسلام دينا” [المائدة: ١٠٧]. وقارئ القرآن لا يخلط مثلا بين «نفِد ينفَد» و«نفَذ ينفُذ». وكيف يخلط بينهما وهو يقرأ قوله تعالى: “لنفِد البحر قبل أن تنفَد كلمات ربي” [الكهف: ١٠٩] “فانفُذوا لا تنفُذون إلا بسلطان” [الرحمن: ۳۳]؟ وقارئ القرآن لا تعسر عليه بعض أحكام نون التوكيد، لأنه يقرأ قوله تعالى: “فاستقيما ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون” [يونس: ٨٩]، وقوله تعالى: “وليحملُنّ أثقالهم” [العنكبوت: ١٣]، وقوله سبحانه : “فإما ترَيِنَّ من البشر أحدا” [مريم: ٢٦]، ونحو ذلك. وأما البلاغة، فمن القرآن الكريم نبعت، وفيه أصولها، وأصنافها، وقواعدها، وشواهدها”.[11]
أهمية الحفظ والسماع في تحصيل الملكة:
يقول ابن خلدون في “المقدّمة”: “والسّمع أبو الملكات اللّسانيّة”.[12] وقد نقلنا في المقالة السابقة عن العلّامة ابن جنّي أن حد اللغة في كونها أصواتًا يعبّر بها كل قومٍ عن أغراضهم، وهذا يدل على أهمية السماع في تعلّمها. فلذلك ينبغي لمن يريد الحصول على الملكة اللغوية أن يستمع إلى المحاضرات والدروس والمقالات والكتب الصوتية والبرامج المفيدة وأن يختار المحتوى الخالي عن العاميّة ومخالفة الفصيح من اللغة لأن جودة الملكة بجودة المسموع والمحفوظ وفسادها بفسادهما، وسيأتي كلام ابن خلدون في هذا الأمر. وقال عن أهميّة الحفظ: “إنّ حصول ملكة اللّسان العربيّ إنّما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتّى يرتسم في خياله المنوال الّذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسِج هو عليه ويتنزّل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتّى حصلت له الملكة المستقرّة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم”.[13]
وأفرد فصلا في بيان أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ، وقال فيه: “قد قدّمنا أنّه لا بدّ من كثرة الحفظ لمن يروم تعلّم اللّسان العربيّ وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلّته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ…
وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثمّ إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأنّ الطّبع إنّما ينسج على منوالها وتنمو قوى الملكة بتغذيتها”.[14]
فلذلك قلنا بأهميّة حفظ القرآن الكريم بالفهم لمعانيه وأيّ كلامٍ أولى بالحفظ من كلام ربّ العالمين. فلا يظنَّ طالب العلم أنه بإقباله على حفظ القرآن الكريم يفوته الكثير من العلم، وأيّ علم يبتغي تحصيله إذا فاته أصل الأصول.
هل يكفي تحصيل الملكة اللغوية العامّة في دراسة العلوم الشرعية؟
فالجواب على هذا السؤال طبعا: لا! بل لا بد لطالب العلم بعد تحصيل الملكة اللغوية العامّة من التعرّف على اصطلاحات العلوم والفنون ومعرفة وجوه الاختلاف بينها، لأن اللفظة الواحدة قد تتغير دلالتها حسب الاختلاف في الاصطلاح. وهذا ما يسمى باللغة الاصطلاحية والعلمية أو على التعبير الجديد باللغة الأكاديمية. وتعلمها يكون بكثرة الاطلاع والاشتغال بالعلم المعيّن والتعلّم على يد المتخصّصين من العلماء والمشايخ إضافةً إلى مراجعة الكتب المصنّفة في هذا الباب ككتاب “التعريفات” للجرجاني و”كشّاف اصطلاحات الفنون” لأشرف علي التهانوي و”الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة” لزكريا الأنصاري وغيرها.
وفي الختام أقول أنّ أهمّ الأسباب على الإطلاق في تحصيل كلّ العلوم هو توفيق الله عز وجل وعونه لعبده، فهو يعطي العلم والحكمة والفهم لمن يشاء ومن يؤتَها فقد أوتي خيرا كثيرا، وفّقنا الله تعالى لشكر نِعَمه بالأقوال والأعمال.
طالب السنة الثانية بمعهد طشقند الإسلامي يونس بن نظام الفاضلي
[1] مقاييس اللغة لابن فارس – طبعة دار الفكر ٥ / ٣٥١.
[2] التعريفات للسيد الشريف الجرجاني – الطبعة الأولى لدار الكتب العلمية ٢٢٩.
[3] المعجم الوسيط لمُجَمَّع اللغة العربية بمصر – الطبعة الرابعة لمكتبة الشروق الدولية ٨٨٦.
[4] مقدمة ابن خلدون – الطبعة الأولى لدار يعرب ٢٧٨.
[5] مقدمة ابن خلدون – الطبعة الأولى لدار يعرب ٢٧٨.
[6] مقدمة ابن خلدون – الطبعة الأولى لدار يعرب ٢٨٤.
[7] عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي (١٣١٣ – ١٣٨٦ هـ = ١٨٩٥ – ١٩٦٦ م): فقيه من العلماء. نسبته إلى (بني المعلم) من بلاد عتمة، باليمن. ولد ونشأ في عتمة، وتردد إلى بلاد الحجرية (وراء تعز) وتعلّم بها. وسافر إلى جيزان (سنة ١٣٢٩) في إمارة محمد بن علي الإدريسي، بعسير، وتولى رئاسة القضاة ولُقّب بشيخ الإسلام. وبعد موت الإدريسي (١٣٤١ هـ) سافر إلى الهند وعمل في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، مصححا كتب الحديث والتاريخ (حوالي سنة ١٣٤٥) زهاء ربع قرن، وعاد إلى مكة (١٣٧١) فعُيّن أمينا لمكتبة الحرم المكي (١٣٧٢) إلى أن شوهد فيها مُنكبّا على بعض الكتب وقد فارق الحياة. وقيل: بل توفي على سريره. ودفن بمكة. (الأعلام للزركلي – الطبعة الخامسة عشرة لدار العلم للملايين ٣ / ٣٤٢).
[8] كتاب عظيم الفائدة، أنصح كلّ الطلاب بقراءته، ولكن لا بد من الاحتياط في اختيار الطبعة وأفضل الطبعات حسب اطلاعي طبعة دار طيبة الخضراء بمكة المكرّمة.
[9] من كبار علماء المغرب في العقيدة واللغة والأدب، وله كتب ومحاضرات مفيدة للغاية.
[10] تكوين الملكة اللغوية للبشير عصام المراكشي – الطبعة الأولى لمركز نماء للبحوث والدراسات ١٤١.
[11] تكوين الملكة اللغوية للبشير عصام المراكشي – الطبعة الأولى لمركز نماء للبحوث والدراسات ١٤٥.
[12] مقدمة ابن خلدون – الطبعة الأولى لدار يعرب ٢ / ٣٦٨.
[13] مقدمة ابن خلدون – الطبعة الأولى لدار يعرب ٢ / ٣٨٦.
[14] مقدمة ابن خلدون – الطبعة الأولى لدار يعرب ٢ / ٤٠٦.