محمد بن جرير الطبري من علماء هذه الأمة المعتبرين والمعتمدين، عاش في القرن الثالث من الهجرة، ورحل في طلب العلم إلى بلاد شتى، وطوَّف في بلاد المسلمين كثيراً، ثم ألقى عصى الترحال، واستقر به المُقام في بغداد حاضرة العالم الإسلامي حينئذ. كان رحمه الله فقيهاً عالماً، برع في علوم كثيرة؛ كالقراءات، والتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، وغيرها من العلوم؛ وصنف في علوم كثيرة، وصل إلينا منها كتابه في التفسير “جامع البيان في تفسير القرآن” وكتابه (التاريخ)، تلك المصنفات -التي أجاد فيها وأفاد- تُخبر بسعة علم الرجل، وغزارة إنتاجه، وقوة حجته.
وكان -علاوة على ذلك- صاحب مذهب فقهي، بيد أنه لم يُقيَّض له من الأتباع من ينشر آراءه ويتبناها، فبقيت منثورة هنا وهناك.
وما يهمنا في الحديث عن هذا الإمام الجليل كتابه “الجامع” ومنهجه في التفسير؛ فالطبري-بلا منازع- اُعتبر أباً للتفسير، بَلْ شيخ المفسرين، وعُدَّ تفسيره من أقوم التفاسير وأشهرها، والمرجع الأول للتفسير بالمأثور.
وقد أجمع العلماء على عظيم قيمة هذا التفسير، وأنه لا غنى عنه لطالب العلم عموماً، وطالب التفسير على وجه الخصوص؛ يقول النووي فيه: “أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري”. أما ابن تيمية فيقرر أن “تفسير الطبري” أصح التفاسير التي بين أيدي الناس.
وقد كان “تفسير الطبري” محط اعتبار عند المتقدمين، وكان كذلك عمدة عند المتأخرين من أهل العلم عموماً والتفسير خصوصاً؛ فهو مرجع الأولين، وهو ملاذ الآخرين في موضوع التفسير.
وكما كان لهذا التفسير أوَّليَّة زمانية فقد كان له كذلك أوَّليَّة موضوعية، فهو لم يقتصر على لون واحد من التفسير، بل اشتمل على ألوان من التفسير، رفعت من شأنه، وجعلت له تلك المنـزلة عند العلماء؛ فالطبري -على الرغم من اعتماده على التفسير بالمأثور أساساً- جمع إلى جانب الرواية جانب الدراية، واهتم بالقراءات القرآنية أي اهتمام، وكان له اعتناء بعرض وجوه اللغة، فضلا عن آرائه الفقهية واجتهاداته التي أودعها كتابه المذكور.
إلاَّ أن السمة البارزة التي ميزت الطبري في “جامعه” ذاك المنهج العلمي الذي سلكه في التفسير؛ فالطبري بحق -كما يتبين لقارئ تفسيره- كان صاحب منهج واضح.
ونستطيع أن نوجز منهج الطبري في “تفسيره” في النقاط التالية:
– اعتماده أساساً على التفسير بالمأثور الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صحابته الكرام، أو التابعين؛ وهو لا يكتفي بذلك، بل نجده يشدد النكير على من يفسر القرآن بمجرد الرأي فحسب. ولا يُفهم من هذا النهج أن الطبري لم يكن يُعمل الرأي في تفسيره، بل الواقع خلاف ذلك، إذ إننا كثيرًا ما نجده يُرجِّح أو يصوب أو يوجِّه قولاً لدليل معتبر لديه.
– كان يقف من السند موقف الناقد البصير، والعالمِ النحرير، الذي لا يقبل الرواية إلا بعد تمحيص وتدقيق.
– ثم إنه كان يقدر إجماع الأمة، ويعطيه اعتباراً كبيراً في اختيار ما يذهب إليه ويرتضيه.
– أما منهجه في التعامل مع القراءات القرآنية فيقوم على رد القراءات التي لم ترد عن أئمة القراءات المشهود لهم، أما القراءات الثابتة فكان له اختيار فيها؛ فهو أحياناً يرفض بعضها لمخالفتها الإجماع، وأحياناً أخرى يفضِّل قراءة على أخرى لوجه يراه، ويكتفي حيناً بالتسوية بين تلك القراءات دون ترجيح.
– ومن منهجه كذلك أنه لم يكن يهتم بتفسير ما لا فائدة في معرفته، وما لا يترتب عليه عمل؛ كمعرفة أسماء أصحاب الكهف، ومعرفة نوع الطعام في المائدة التي نزلت على رسول الله عيسى عليه السلام ونحو ذلك.
– وكان الطبري يحتكم كثيراً في تفسيره عند الترجيح والاختيار إلى المعروف من كلام العرب، ويعتمد على أشعارهم، ويرجع إلى مذاهبهم النحوية واللغوية.
– وكما أِشرنا بداية فقد كان الطبري صاحب مذهب فقهي، وهذا واضح في “تفسيره”، فنحن كثيراً ما نراه يعرض لآيات الأحكام ويناقشها ويعالجها، ثم يختار من الأحكام الفقهية ما يراه الأقوى دليلاً والأوجه تعليلاً.
– وكان من منهج الطبري أيضاً تعرضه لكثير من مسائل علم الكلام والعقيدة، والرد على كل من خالف فيها ما عليه أهل السنة والجماعة، وكان هذا النهج واضحًا لديه في رده على كثير من آراء المعتزلة ومن شابههم.
– ثم أخيراً نَلْمَحُ الطبري يسوق في تفسيره أخباراً من القصص الإسرائيلي، ومن ثَمَّ يتعقَّبها بالنقد والتمحيص؛ لكن -وعلى الرغم من ذلك- فاته بعض المرويات التي لا تزال تحتاج إلى النقد الفاحص، والتمحيص الناقد.
تلكم كانت جولة سريعة أطللنا من خلالها على شيخ المفسرين، وعلى تفسيره “الجامع” وتعرَّفنا -بإيجاز- على أهم سمات منهج الطبري في “تفسيره”.
سليمان نعمتوف
طالب الصف الرابع